بائعــــــة الــــــوردظلام الليل يستهويني . فأنا أحبه . أعشقه . أمشي لساعات دون ملل
فيه . الشوارع تخلو من المارة . أحس بأن الكون أصبح لي وحدي .
أفكر فى عمق . في هدوء . أملأ رئتاي بنسمات الهواء الصافي . دون
غبار . دون دخان . دون أن يلوث بالأنسان . سيسأل أحدكم : هل أنت
تهرب ؟ ومن ماذا ؟ سأجيبه : أني فعلا أهرب . فأنا أعمل مدرساً للتربية
الرياضية . وطول اليوم . رفع . مد ... ثنى . أفرد يديك جيداً يا ولدي . لا
تنظر في الأرض . طوال اليوم على هذا الحال : يا كابتن هذا يضربني ..
هذا يشتمني والأستاذة فلانة تقول لك عاقب هذا بالضرب لأنه يشاكس
زملائه . المدير يقول هناك أولاد يتسربون من أعلى السور . معنى هذا
أني في المدرسة مطلوب منى الضبط والربط أو بمعنى آخر أمثل فيها
قسماً للشرطة والسجان وفرد الأمن . وعندما أعود للمنزل أواجه نفس
الأمر . أعرفتم لماذا أهرب . حتى جاءت الليلة المشهودة . عندما رأيت
رجلاً يحاول أن يجذبها إلى السيارة . وهى تقاومه . صوت مكتوم يصدر
عنها . وهو لا ييأس . تنشب أظافرها فيه كالنمرة . حتى سال الدم من
وجهه . وقفت لأستطلع الأمر. رآني . تركها . ركب السيارة وهرب .
نظرات الحيرة في عيني ... قالت لي : يحسبني مجرد سلعة .
رأيت في يديها سلة يتدلى منها زهور وورود .
تناثر على الأرض أكثر مما في السلة .
قالت : أنى بائعة ورد .
لا أملك إلا هذا . من أجل أمي وخمسة من الأخوات .
رفعت عيناي إليها رغم الأدب.
يا الله .. سبحانه من صور . وجه كالماسة يتلألأ . عينان لا قرار لهما
كالبحر . روح صافية تطل من عينيها .( معذور هذا الذئب ) .
. مدت يدي إلى جيبي . كل ما بداخله أخرجته . ووضعته
بين يداها . قالت : كثير هذا . أنى لم أبيع بمثل هذا المبلغ منذ السنوات .
ودفعت لي كل ما لديها من الورد . نظرت إليه . مسكينة تلك الوردات .
رماك حظك العاثر في يد القمر . ولذا لا يرى جمالك أحد . وودعت هاتين
العينين . وذهبت . أتشمم في الورد لأشم فيه عطر يديها . مسكين أيها
الورد ... عبيرك ذاب في عبير يديها وتلاشى . مرت أيام وليالي . ووجهها
ملئ كياني . كثيراً ما أغمض عيني وأغوص في بحر عينيها اللا متناهي
. أجمع الياقوت والمرجان واللآلئ من أعماق عينيها . أجاهد نفسي
حتى لا أعود إليها مرة أخرى . أتحاشى مروري من هذا الشارع . فأني
أخشى على قلبي من سلطان هاتين العينين . فإن أمروني .. لن أجد من
قلبي إلا الطاعة . قالت زوجتي : لماذا تتمسك بهذه الوردات الذابلات ؟
وحالك منذ الأيام ليس هو الحال ؟ نظرت بعينيها . رأيت بداخلهما عيناي
بائعة الورد . ودون أن أشعر قلت لها : ما أسمك ؟ أفقت من حالتي هذه
على صوت الضحكات . وقالت لى : أتسألني الآن عن أسمى بعد زواج
أربعة عشر عام ؟ عموما يا سيدي أنا اسمي ( عبد العال ) ها ها ها ..
مسكينة أيتها الزوجة . فأنا تزوجتها كرد فعل لحبي الأول لـ ( سلمى ) .
فسلمى كانت كل حياتي . دموعي . آهاتي . حتى جئت أنت في المكان
الخطأ . في الزمان الخاطىء . فأنا لم أختار . ( هم ) اختاروا لي . وأنا
مازلت الباحث عن الحب . أريد الصدق . أريد نوراً يملأ كل حنايا القلب .
يأسر روحي . حتى يشعرني بأني إنسان . تركتها وذهبت . وجدت
قدماي تقوداني إلى بائعة الورد . ليست موجودة . مرت الأيام وأنا أكرر
مروري من هذا الشارع . لكن لا أجدها . لقد ذابت كحبيبات السكر في
الماء . في أحد الأيام رأيت وردة تقترب من أنفي . رفعت عيناي . فإذ
بالبحر الصافي أقصد تلك ( العينان ) . وصوت نسيم هادئ يداعب
وجداني ويقول . نسيت أن أشكرك لإنقاذي . هذه الوردة ستشكرك بدلا
عني . واختفت كنسمات البحر في لحظة . لم أعلم كم زمن وقوفي هذا ؟
أنظر للوردة . أتشمم فيها عطر ملاكي الفواح . هل هذا معقول ؟ هل
أحببت بائعة الورد . أسمع بعض القراء يتضاحكون علي . فلنجتمع .
ولنعقد جلسة ... هيا .
ولا يتغيب منكم أحداً . أسمع منكم واحد يسأل : كيف وأنت مدرس
ومتزوج وعندك أولاد تحب مرة أخرى ؟ ومن !! ... بائعة الورد ؟
وجهت كلامي إلى الجمع ( نقطة نظام يا أخواني ) فأنا رجل ديمقراطي .
وسأجيب على سؤال هذا القارئ : أنى أبحث عن سلمى . وسلمى هنا
ليست شخص . سلمى هي معنى للحب . فالأم ترعى أولادها بدافع سلمى
(أقصد الحب ) . الناس تعيش بسلمى . ضاعت مني في أحد الأيام .
ووجدتها . فهل يرضيكم أن أحرم منها مرة أخرى ؟ أني أحتاج
لـ ( سلمى ) . هل تريدون أحكم على نفسي بالموت .
باللاحب . بجفاف القلب ؟
أخواني أسمع في القاعة ضوضاء .
فلنقترع ونأخذ بغالبية الأصوات . من منكم يستطيع العيش بدون سلمى
فليرفع يده .... ( منافقة ) أقصد موافقة . فأنتم يا أعضاء الحزب
(الحاكم ) في واد ونحن في وادي . تعودتم مجرد رفع الأيدي . وأنا
سأعلنها ( قرار من المجلس سيد قراره ) سأذهب وألبي نداء القلب .
ومن منكم يريد أن يشهد عرس الحب فليتبعني . أنه الشارع الذي تقف
فيه سلمى ( أقصد بائعة الورد ) لكن ما هذا الجمع . أكثر من ألف .
أسمع رجل يقول أنها بائعة الورد . قلت لنفسي : هل كل هؤلاء الناس
يريدون سلمى . اخترقت الجمع . جثة مسجاة على الأرض . مغطاة
حتى الرأس . ورأيت وردة بجانبها . وردة بيضاء مخضبة بالدم .
بكيت بصوت عالي . قال الضابط لي : هل تعرفها ؟ أكشف عن وجهها وأجبنى؟
مدت يدي وأنا أتمنى ألا تكون . وبكيت . تساقطت دموعي على خديها .
قال لي : تعرفت عليها ؟
قلت : أنها سلمى قد ( ماتت مرة أخرى )
قال الضابط : يظهر أنه مجنون و من هنا أخرجوه .
لم أعد للمنزل . فأنا قررت أن أهدي للناس الحب . حتى تنعم سلمى في
الجنة . أحضرت الورد . في نفس مكانها ووقفت . أهدي للناس الورد .
بقلمى
أيمن عبد القوي الأعلامي