ما أجمل هذا الصوت
كانت ليلة جميلة ,اكتمل فيها البدر, وازدانت السماء الصافية بالنجوم من كل لون
وكان المتسامرون يجلسون في الهواء الطلق.. بينما أخذت نسمات الهواء المنعشة تلامس الوجوه برفق ولطف..
أخذ كل واحد من أفراد المجموعة مكانه.. واتكأ على إحدى الأرائك المبثوثة هنا وهناك..
وقد كانوا جميعاً ينتظرون أن يبدأ (سمير) غناءه المحبّب إلى نفوسهم..
وقد كان سمير ذا صوتٍ جميل.. يأسر سامعه ويأخذه إلى عالم ٍ آخر.. بالإضافة إلى كونه ماهراً في الضرب على العود..
هاهو سمير يأخذ مكانه في صدر المجلس بعد أن حيّا رفاقه المتلهفين لسماع غنائه.. ثم أمسك سمير بعوده الخشبي.. وسكت برهة يبلع فيها ريقه.. ثم انطلق يغني بصوته الجميل..
كان الشيخ (أبو صالح) عائداً لتوه من الجامع الكبير.. بعد أن صلى العشاء مع الناس.. وكان من عادته أن يتمشى قليلاً.. قبل أن يرجع لبيته..
وبينما هو يمشي ويسبح الله.. إذ به يسمع صوتاً عجيباً آتياً من بعيد..
كان الصوت يتهادى إلى أذن أبي صالح بهدوء في سكون الليل المهيب.. فأخذ أبو صالح يحاول تمييز الكلمات التي يرددها ذلك الصوت.. ولم يستطع أن يفهم شيئاً لبعد المسافة بينه وبين الصوت..
ما كان من أبي صالح إلا أن توجه نحو مصدر الصوت.. وكان كلما اقترب من الصوت.. اتضح له أنالصوت جميل جداً.. ولكنه كان مصحوباً بضرب العود..
كان سمير ورفاقه يعيشون حالة لا توصف من الطرب.. وكم كانت دهشتهم عظيمة عندما رأوا الشيخ أبا صالح وقد أطل عليهم فجأة بهيأته الوقورة.. ووجهه الذي يبدو منه النور..
وعندها لم يكن من سمير إلا أن توقف عن الغناء.. وقد عقدت الدهشة لسانه.. وتعلقت عيناه بوجه الشيخ الوقور..
اقترب الشيخ من سمير وقال بلهجة واثقة:
ما أجمل صوتك يا بني.. لو كان بالقرآن!!
ثم أخرج ورقة من جيبه وكتب فيها شيئاً.. ثم ألقى الورقة بين يدي سمير.. وقال وهو ينصرف راجعاً من بيته:
يا بنيّ.. إذا كنت ستغني ثانية.. فليكن غناؤك بهذه الأبيات..
ثم اختفى الشيخ وسط الظلام..
التقط سمير الورقة.. فوجد مكتوباً فيها..
*************************************
يا سـَاهـِر الليل مسروراً بأوله ~*~ إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تـفـرحــن بـليـل ٍ طـاب أوله ~*~ فــرب آخـر ليــل ٍ أجــج النــارا
عادت تراباً أكفّ ُ الملهيات وقد ~*~ كانت تـُحرك عيداناً و أوتارا!
**************************************
شعر سمير برجفة شديدة تسري في جسده لمّا قرأ الأبيات.. وأخذ يرددها.. وهو يتذكر الموت والقبر.. ويتخيل أكل الدود ليده التي تحرك أوتار العود!
فأخذت الدموع تنهمر من عينيه.. ثم وثب من مكانه يجري خلف الشيخ وهو ينادي:
يا شيخ! يا شيخ!
كان الشيخ أبو صالح لم يبلغ منزله بعد.. فانتهى إلى سمعه صوت النداء.. فالتفت خلفه ينظر إلى المنادي فإذا هو سمير.. ورأى وجنتيه تلمعان على ضوء القمر من أثر الدموع..
فما كان من الشيخ إلا أن احتضن سمير وعانقه وهو يقول:
مرحباً والله باتائب!
ثم انصرف سمير مع الشيخ إلى منزله.. وعندما وصلا.. أجـْلـَسَ الشيخ سمير في مجلس البيت.. ثم جلس إلى جانبه وهو يقول:
عندما سمعتُ صوتك يا بني.. أسـِفتُ والله أن يكون ذلك الصوت تالياً لقرآن الشيطان!
قال سمير:
وهل للشيطان قرآن يا شيخ؟
أجاب الشيخ:
أجل يا بنيّ! إنه الغناء؛ الغناء هو قرآن الشيطان الذي يجمع كل شر.. فمن الغناء ما هو كفر.. ومنه ما هو فسق.. ولا يخرج الغناء بحال من الأحوال عن أن يكون معصية لله.. هادمة للدين والخلـُق..
وكيف يشكّ عاقل في حرمته؟ وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ("ليكوننّ أقوام من أمتي يستحلـّون الحر والحرير والخمر والمعازف").. ومعنى يستحلـّون أي يعتبرونها حلالاً فيمارسوها.. والحر هو الفرج الحرام.. أي الزنا عياذاً بالله.. وكلمة المعازف يفهم معناها كل أحد.. أمـّياً كان أو عالماً..
يا بنيّ!
إن الغناء هو صوت الشيطان الذي يدعو للزنا والفجور.. ويُـلهي القلب.. ويصده عن فهم القرآن وتدبره.. والعمل بما فيه.. فإن القرآن والغناء ضدان لا يجتمعان في القلب أبداً.. فالقرآن ينهى عن اتباع الهوى.. ويأمر بالعفة.. ومجانبة شهوات النفوس.. وأسباب الضلال.. والغناء يأمر بضد ذلك كله.. ويهيج النفوس إلى شهوات الغي.. فيثير كامنها.. ويسوقها إلى كل قبيح..
ولو لم يكن في الغناء إلا أنه يَـحرِم العبد من التلذذ بكلام ربه لكفى به إثماً ومُـصيبة! فكيف وهو يَـجُـرّ إلى مصائب ورذائل شنيعة؟!
يا بنيّ!
لو تخيلنا أن إنساناً قال له الناصحون أنك لو شربتَ من هذا الشراب اللذيذ.. فسوف تموت فوراً لأنه ممتلئ بالسم..
فلو شرب منه ومات.. أليس هو من قتل نفسه؟
وكذلك من فتن نفسه بالغناء.. فقاده إلى ترك الصلاة.. أو ذهاب خشوعها إن كان يصلي.. أو قاد نفسه إلى الزنا والفجور.. أو إلى أكبر من ذلك من الشرك بالله.. كما يحصل مع كثير ممن تمتلئ قلوبهم بحب معشوقيهم..
إن هذا الإنسان الذي يقوده الغناء إلى مثل هذه الموبقات.. يتحمل وحده مسؤولية جنايته على نفسه.. فقد نصحه الناصحون.. ولكنه أبى إلا أن يشرب من سمّ الشيطان والشهوة..
وكم من عشاق الغناء من مات وهو يردد كلمات الغناء.. بل وبعضهم مات مشركاً بالله والعياذ بالله!
وهكذا نهاية من استهان بمعصية الله.. واستجاب لنداء الشيطان اللئيم.. فإن من الأمور التي تسرّ الشيطان.. هو أن يرى الإنسان وهو يبتعد عن طريق ربه..
وبالتالي يكون معهم في جهنم! ويوم القيامة لا ينفع هذا الإنسان المخدوع الاعتذار.. ويُـقال له ولأمثاله:
(" ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيّ حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير")..
يا بنيّ!
هل عرفتَ الآن لماذا جئتك ونصحتك؟
رد سمير بصوتٍ خافت:
أجل.. وجزاك الله خيراً.. وأحمد الله الذي أنقذني بك من النارأيها الشيخ الفاضل..
قال الشيخ:
الحمد لله.. ولكن عليك الآن أن تقوم بمهمةٍ أخرى..
قال سمير متسائلاً:
ما هي؟
أجاب الشيخ:
بقي أن تذهب إلى أصحابك فتنصحهم.. عسى الله أن يهديهم لما هداك إليه..
قام سمير بما أمره الشيخ.. ثم ذهب إلى بيته وأمضى ليلته في الدعاء والاستغفار..
وفي فجر اليوم التالي كان سمير يبدأ حياة جديدة..
حياة ملؤها الطاعة والصلاة والذكر والخير..
فأشرق وجهه بالنور.. وحَـفِظ القرآن في مدة وجيزة.. وكان لا يفوته الصف الأول في أيّ صلاة..
وفي رمضان.. قـدّم أهل الجامع سميراً ليُـصلي بهم القيام.. وقرأ بصوته الجميل.. فسالت دموع المصلين خلفه.. وممّن كان يُـصلي خلفه الشيخ أبو صالح.. والذي كان يُـردد في نفسه:
-حــــــــــقـــــــا مـــا أجــــــــمـــــــــل هــــذا الـــــصـــــــوت!!!!!